Tuesday, September 18, 2012

سنوات الخداع -3


الدكتور-محمد-البرادعى
فى أوائل التسعينيات اتخذت العلاقات بين أجهزة المخابرات ومنظمات التفتيش الدولية، سواء فى العراق أم كوريا الشمالية أم غيرها، شكل المساومات. فمقابل مشاطرة الوكالة واللجنة الخاصة فى معلوماتها كانت أجهزة المخابرات ترغب فى الحصول بصفة تفصيلية على نتائج التفتيش. وبالإضافة إلى ذلك وكان السبب فى رغبتها تلك واضحة تماما. فمفتشو الوكالة واللجنة الخاصة كانت أمامهم فرصة أكبر كثيرا للوصول إلى ما يريدون عن طريق حقهم فى التفتيش على مختلف المواقع والمنشآت، وكانوا لذلك قادرين على حُسن استخدام معلومات المخابرات والتحقق من صحتها، وهو الأمر الذى لم تكن أجهزة المخابرات تستطيع القيام به. وبالطبع لم تكن الوكالة لتقبل بمثل هذا الترتيب. فتدفق المعلومات كان لا بد أن يكون فى اتجاه واحد. ذلك أنه من أجل الحفاظ على نزاهتها ومشروعيتها لم يكن بوسع الوكالة أن تقدم معلوماتها الخاصة إلى جهاز مخابرات وطنى.
كانت الوكالة مصممة على الاحتفاظ باستقلالها، الأمر الذى وضعها أحيانا فى مجابهة مع بعض الدول. كان ذلك واضحا على سبيل المثال أثناء التفاوض على قرار مجلس الأمن رقم 687 عندما حاولت الولايات المتحدة إسناد قيادة عمليات التفتيش إلى اللجنة الخاصة مفضلة إياها على الوكالة. وكانت الدوافع لذلك واضحة بالنسبة لى، فاللجنة الخاصة كانت هيئة جديدة منشأة بصفة مؤقتة كجهاز فرعى تابع لمجلس الأمن، ومن هذا المنطلق كان من الأسهل أن يستطيع أعضاء مجلس الأمن الرئيسيون ممارسة قدر كبير من التأثير على عملياتها. وقد استُدعى مفتشو اللجنة الخاصة على عجل من الهيئات والمختبرات الحكومية الوطنية التى تتوافر فيها المهارات اللازمة (المعرفة بالمواد السامة البيولوجية والكيماوية وبتكنولوجيا الصواريخ بعيدة المدى)، ومن ثَمَّ كان الاعتقاد أنه يكون من الأيسر اختراق اللجنة الخاصة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تلك المنظمة المستقرة ذات الخبرة النووية المستقلة.
وبصفتى المستشار القانونى للوكالة فى ذلك الوقت كنت فى نيويورك أثناء التفاوض على هذا القرار. عقدت عدة اجتماعات مع «روبرت جالوتشى»، وهو دبلوماسى وأكاديمى أمريكى ثاقب النظر يتسم بالمرونة، وأصبح فى ما بعد نائبا للمدير التنفيذى للجنة الخاصة للأمم المتحدة. وقد بذلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية جهودا حثيثة للاحتفاظ باستقلالها فى التعامل مع الملف النووى. وفى معظم الأحيان نجحنا فى ذلك. على أن «جالوتشى» أقر فى ما بعد بأنه كان هناك قدر من الاختلاف الداخلى فى بعض الدوائر الأمريكية التى أعربت عن قلق شديد حول ما إذا كانت الوكالة على مستوى هذه المهمة. وعلى العكس، كان غيرهم قلقين من أن إعطاء اللجنة الخاصة السلطة الأولى من شأنه أن يضر بمصداقية الوكالة. وكانت الصياغة التوافقية للقرار تبدو مخففة للغاية: تقوم الوكالة بمهمتها «بمساعدة اللجنة الخاصة وبالتعاون معها». وفى رأى «جالوتشى» فإن هذه الصيغة كانت تضمن أن تكون اللجنة الخاصة على معرفة بما تقوم به الوكالة.
كان من المهم بطبيعة الحال أن تتعاون الجهتان، ولا سيما من الناحية اللوجيستية، ونظرا لأن كثيرا من المنشآت التى كان يتعين علينا التفتيش عليها كانت قد قُصفت فقد كانت هناك مخاطر تهدد السلامة بسبب المواد المتبقية القابلة للانفجار، وكانت اللجنة الخاصة قد استعانت بخبراء فى المواد القابلة للانفجار لمرافقة فرق كل من الجهتين. على أن هناك الكثير الذى كان على اللجنة أن تتعلمه من حيث التنظيم والانضباط الذى تميزت به فرق الوكالة التى كانت تعمل معا لسنوات طويلة، وكان أعضاؤها فى بعض الأحيان يعرفون نظراءهم العراقيين وأساليب عملهم.
ومما لا شك فيه أن الشخصيات المشاركة أثرت على العلاقة بين الهيئتين. فـ«هانز بليكس» الذى كان يومئذ مديرا عامّا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان من قبل وزيرا لخارجية السويد. وكان «رالف إيكيوس»، الذى عُين مديرا للجنة الخاصة (أنسكوم) كان كذلك دبلوماسيًّا سويديًّا. ووفقا لما هو متعارف عليه فى وظائف الخارجية كان «بليكس» أعلى مرتبة من «إيكيوس»، ومن الواضح أنه لم يكن راضيا عن تلقى تعليمات من «إيكيوس» فى المجالات التى كلفت اللجنة الخاصة فيها بالقيادة. كما أن وجود مقر اللجنة فى نيويورك، حيث كانت تستحوذ على الجانب الأكبر من الاهتمام الإعلامى، لم يسهل الأمور، ولا سيما أن صورة الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى ذلك الوقت كانت غائمة. لكن العلاقات أصبحت أيسر إلى حد ما بفضل «ماوريسيو زيفيريرو»، وهو عالم إيطالى حسن المعشر عمل رئيسا لفريق الوكالة فى العراق، وكان يسارع إلى تسوية الخلافات التى تنشأ بين المنظمتين.
وبحلول موعد عملية التفتيش الثانية فى العراق، من 22 يونيه إلى 4 يوليه 1991، كان المسرح مهيأ لمأساة، فقد قدمت إحدى جهات المخابرات صورا استطلاعية للوكالة تدل على تصاعد أنشطة العراق بمجرد مغادرة فريق التفتيش الأول فى منطقة تقع خارج موقع «التويثة». فقد استخرج عدد من الأسطوانات المعدنية الكبيرة من باطن الأرض من المكان الذى يبدو أنها كانت قد دفنت فيه ونقلت إلى مكان آخر.
كذلك وردت معلومات عن برنامج مزعوم للتخصيب، كان العراقيون يقومون به سرّا من خلال تقنية يطلق عيها فصل النظائر بطريقة كهرومغناطيسية (EMIS)، وتستخدم هذه التقنية آلة تسمى «كالوترون»، وهى نوع من أجهزة قياس الطيف الضخمة توضع بين أجهزة كهرومغناطيسية كبيرة اخترعتها جامعة كاليفورنيا. هذه الطريقة ليست ذات كفاءة عالية وتستهلك كميات هائلة من الكهرباء. وقام متخصصون فى برنامج «كالوترون» التابع لمشروع مانهاتن بتقييم الصور التى تلقاها مفتشو الوكالة والتقارير الواردة من موقع «طارمية» ورأوا أنها تفيد بوجود عمليات التخصيب من خلال فصل النظائر بطريقة كهرومغناطيسية (EMIS).
استمر العراقيون على إنكارهم وجود برنامج لتخصيب اليورانيوم لم يتم الإعلان عنه، لذا كان من الضرورى تعقب المعدات كدليل على ذلك. ومن هنا فإن عملية التفتيش الثانية تحولت إلى ملاحقة، وقد قيل إن الموقع الجديد للأسطوانات المستخرجة من باطن الأرض، والتى كان يشتبه فى أن تكون ممغنطة لاستخدامها فى عملية «EMIS»، هو معسكر حربى. وعندما وصل فريق الوكالة إلى هذا المكان مُنع من الدخول. وقدمت الاحتجاجات إلى المستويات الأعلى فى الحكومة العراقية فسمح له بالدخول بعد ثلاثة أيام. ولكن المعدات عندئذ كانت قد اختفت.
وبعد ذلك بثلاثة أيام أخرى تلقى الفريق معلومات عن الموقع الجديد: معسكر حربى آخر. وفى هذه المرة حضر فريق من مفتشى الوكالة دون سابق إنذار. ورُفض دخولهم مرة أخرى. لكن اثنين من أعضاء الفريق تسلقا السلم الخارجى لخزان مياه مجاور وشاهدا من أعلى قافلة من الحافلات تتجه نحو الباب الخلفى للمعسكر. وقام عضوان آخران فى الفريق فى سيارة للأمم المتحدة بمطاردة الحافلات مشيرين بأيديهم كيفما اتفق أثناء مرورهم بالأسواق المحلية إلى أن تمكنوا من الوصول إلى الطريق السريع الصحيح. وقد حقق إصرارهم نتيجته، فعندما وجدوا القافلة وجدوا أنها تضم ما يقرب من مئة حافلة محمّلة بما يبدو أنه معدات نووية، حتى إن الكثير منها لم يكن قد تم تغطيته بسبب تعجل الهروب. وكان الإمساك بالعراقيين متلبسين على هذا النحو اختراقا كبيرا.
فى أوائل يوليه قمنا؛ «بليكس» وأنا، برحلة إلى بغداد. كنا أعضاء فى وفد رفيع المستوى شكَّله الأمين العام للأمم المتحدة «خافيير بيريز دى كويار»، وكان «إيكيوس» هو رئيس الوفد؛ مما لم يُرض «بليكس» إطلاقا. وكان هدفنا هو الضغط على الحكومة العراقية لتتوقف عن عرقلة عملية التفتيش، وأن تفصح بشكل صريح عن كامل برنامجها النووى.
فى البداية استمر العراقيون فى الإنكار وألحَّ رئيس لجنة الطاقة الذرية العراقية الدكتور همام عبد الخالق غفور على «بليكس» وعلىَّ بضرورة القبول بما يقوله العراقيون. وقد أقسم لنا، ونحن معه فى السيارة، إن العراق لم يقم بأية أنشطة تخصيب غير معلنة على الرغم من الدلائل المتزايدة على عكس ذلك. وأكد أن برنامج العراق النووى كان سلميّا تماما.
لكن الضغط الدولى كان يتزايد، وحدد مجلس الأمن موعدا نهائيّا، موضحا أنه على استعداد لاتخاذ مزيد من التدابير. ومع ذلك كان فريق تفتيش جديد قد وصل وكان مستعدّا لتتبع مؤشرات جديدة.
وفى 7 يوليه امتثلت السلطات العراقية وقدمت للوكالة قائمة مطولة جديدة بالمعدات ومواقعها. ولم يشمل هذا الإقرار الجديد عمليات تخصيب «EMIS» فقط، ولكنه تضمن كذلك أعمال التخصيب بالطرد المركزى والكيماوى وإعادة المعالجة التى قاموا بها لفصل بضعة جرامات من البلوتونيوم. وتضمن الإقرار كذلك قائمة بمنشآت التصنيع والمساندة. كما كشف عن وجود حوالى أربعمئة طن من اليورانيوم غير المخصب الذى تم استيراد جانب منه من البرازيل والنيجر والبرتغال لكن لم يسبق الإعلان عنه للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وما زلت أذكر أحد مشاهد هذه الزيارة بشكل واضح. كنا، «بليكس» وأنا، قد صحبنا أعضاء فريق التفتيش الذى يضم أفرادا من «الأنسكوم» ومن الوكالة، إلى موقع فى قلب الصحراء. وذكر العراقيون أنهم سيطلعوننا على معدات لفصل النظائر كانوا قد دمروها ودفنوها حتى لا تُكتشف. وكنا فى فصل الصيف حيث بلغت درجة الحرارة أقصاها. وكان من الواضح أن مفتشينا القائمين بقياس هذه الكتل المعنية الضخمة وتوصيفها تنتظرهم مهمة شاقة.
وفجأة قرر «ديفيد كاى» وهو مدير سابق من المستوى المتوسط فى برنامج التعاون الفنى التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، قليل الخبرة فى التفتيش على الضمانات استجواب أحد كبار العلماء العراقيين فورا. ورفع ذراعه بصورة مسرحية وصاح: «ليبدأ الاستجواب الآن». وقد أدى ذلك إلى إحراج «بليكس» وإحراجى فدعونا «كاى» جانبا لإبلاغه بأن هذه ليست الطريقة التى نُجرى بها أعمال التفتيش. وكان هدفنا فى هذه الحالة هو السعى للحصول على تعاون كامل من جانب العراقيين، ولم يكن التهديد والإهانة بالطبع هما الأسلوب لتحقيق هذه الغاية.
وكان تعيين «كاى» كمفتش للضمانات فى ذلك الوقت أمرا غريبا. فحسب معلوماتى، لم تكن لديه الخبرة العلمية أو التكنولوجية، وكانت دراسته فى مجال الشؤون الدولية. وقد عرفته شخصا لماحا يتسم باللياقة وحسن التعبير. ولكنه بمجرد تعيينه فى فريق العمل المعنى بالعراق يبدو أنه حدث تحول فى شخصيته. كنا قد سافرنا معا إلى نيويورك أثناء مناقشة تطبيق القرار (687). وبغير تشاور معى أو إبلاغى قام «كاى» بتحديد مواعيد للقاءاته مع المسؤولين الأمريكيين مما يعد مخالفة وخروجا على الأعراف المعمول بها فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وربما تدعو النظرة إلى الوراء إلى الاعتقاد بأن جهاز المخابرات الأمريكية أراد نقل معلومات من خلال «كاى» ليتصرف فريق عمل الوكالة بالعراق بناء عليها، وكان تعيينه فى هذا الفريق أساسا لأغراض تنظيمية وإدارية، ومع ذلك طلب إليه لسبب ما رئاسة عمليتين من عمليات التفتيش الحاسمة. هل كان «بليكس» أو «زيفيريرو» يعرفان بوجود أى علاقة لـ«كاى» بالمخابرات الأمريكية؟ هذا ما لا أعرفه.
ولحُسن الحظ فإن أسلوب التفتيش الذى اتبعه «كاى» الذى وصفه «جالوتشى» نفسه بأنه أسلوب «رعاة البقر» لم يكن شائعا بين مفتشى الوكالة، لكن الأمر كان مختلفا فى «الأنسكوم». ففى تلك الرحلة نفسها إلى الصحراء رأيت عالِما عراقيّا كبيرا يبكى من الإحباط إزاء المعاملة التى تعرض لها من جانب أحد مفتشى «أنسكوم» الذى اتهمه علنا بالكذب.
وفى الحافلة التى أقلّتنا فى طريق العودة نظرت حولى فوجدتها تغص بالأمريكيين. وقد جاء الكثير منهم من المختبرات الوطنية الأمريكية. كان مستواهم رفيعا من الناحية الفنية، ولكنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن كيفية إجراء عمليات تفتيش دولية أو عن كيفية التصرف فى سياقات ثقافية مغايرة. وكان من الواضح، من محادثاتهم العابرة، أنهم كانوا يعتقدون أن مجرد حضورهم إلى بلد تعرض لهزيمة عسكرية يسمح لهم بالقيام بما يحلو لهم.
تحدثت إلى بعض الجالسين إلى جوارى فى الحافلة وشرحت أساسيات النهج الذى تتبعه الوكالة الدولية للطاقة الذرية: المهنية التى تتسم بالمثابرة والاحترام، وذكرت أن المهنية هى السمة التى يتميز بها مفتشونا، وأنها توافرت لهم عبر سنوات من الخبرة، وانتقدت كذلك السلوك الهجومى «للأنسكوم».
وكانت النتيجة مذهلة. حيث قام بعضهم بنقل صورة مختلفة تماما عن هذا الحوار، وفى النهاية ظهرت هذه الرواية المشوهة لما قلت والتى زُعم أنها واقعية، فى مقال نشره «جارى ميلهولين»؛ مدير مشروع «ويسكونسن» للحد من التسلح النووى، فى مجلة النيويوركر قال فيه إن: «البرادعى، ذلك القادم توّا لمشهد التفتيش فى العراق، عبر عن تقاليد الوكالة الدولية حيث قال أمام حشد من المفتشين، كما يذكر «كاى»: «إن العراقيين ليس لديهم برنامج لليورانيوم المخصب، وأنا أعلم ذلك لأنهم أصدقاء لى، ولأنهم أخبرونى أن ليس لديهم مثل هذا البرنامج، وبالطبع فإن البرادعى مخطئ ولكنه كان يعبر عن التوجه الذى حدده رؤساؤه فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية».
وبالطبع لم يكن قد بدر عنى أىٌّ من هذه الأقوال، بل إن العراقيين كانوا قد بدؤوا بالفعل فى الاعتراف بقيامهم بعملية فصل النظائر الكهرومغناطيسية، بل إننا كنا فى هذه الرحلة بصدد العودة من تفقد ما وصفه العراقيون بأنه أجزاء مفككة من أجهزة فصل النظائر. لقد كانت الدلائل على عمليات التخصيب التى قام بها العراق والوسائل والمنشآت المستخدمة لهذا الغرض قد بدأت فى الظهور من أكثر من زاوية. وبالتالى كنت سأكون قليل الذكاء إذا قلت بأن هذه البرامج لا وجود لها. ولكن كل هذه البدهيات لم تكن لتؤثر على ما نُشر فى النيويوركر، أو على ما أعقب ذلك من قصص صحفية تزعم أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تتمتع بالكفاءة.
واستمر بعض مفتشى «الأنسكوم» فى استخدام سلطتهم بصورة مفرطة تفتقر للحساسية الثقافية والدينية اللازمة. اقتحم بعضهم المساجد والكنائس للبحث عن أسلحة الدمار الشامل دون أن تكون هناك أى دلائل تفيد بوجودها فيها. وكان منهم من يقوم بعمليات التفتيش خلال الأعياد والإجازات الدينية دون داعٍ مُلحٍّ لذلك. وفى مرحلة تالية أصروا على تفتيش قصور صدام حسين ليس لأن لديهم معلومات جدية على وجود ما يستوجب أو يستدعى التفتيش فى هذه القصور ولكن لمجرد إظهار قدرتهم على تفتيش القصور الرئاسية ولم أتمالك نفسى أحيانا من التساؤل حول ما سيكون عليه شعورهم لو أنهم كانوا هم فى مكان العراقيين فى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من أن غالبية العراقيين كانوا يبغضون صدام حسين بسبب أسلوبه الوحشى فى القيادة، غير أنهم، وكثيرين من العرب، شعروا بأن ما يقوم به مفتشو «الأنسكوم» فيه إهانة واستخفاف بالكرامة العراقية، وبدلا من تشجيع العراقيين على المزيد من التعاون لم يؤدِّ أسلوب «رعاة البقر» الاستفزازى هذا إلا إلى تراكم أسباب الحنق والبغضاء إزاء هذه الفرق، خاصة أن هذه العمليات التحكمية لم تُفضِ إلى أية نتائج.
وبينما كان صيف 1991 يقترب من نهايته لم يكن لدينا بعد أى دلائل ترجح وجود نوايا حقيقية لدى العراق لتطوير الأسلحة النووية. كان واضحا أن العراق قد قام بإخفاء نشاطات تتعلق بتخصيب اليورانيوم وبفصل البلوتونيوم، ولكن العراقيين كانوا يصرون على أن هذه النشاطات كانت تتم لأغراض سلمية.
وجاءت نقطة التحول فى نهاية شهر سبتمبر مع الزيارة السادسة لفرق تفتيش الوكالة الدولية، حيث وصلت الوكالة معلومات أشارت إلى مبنيين فى وسط بغداد، وهما عبارة عن مكاتب لوزارتَى الصناعة والتصنيع الحربى. وقد أدى خطأ فى الإجراءات الأمنية ارتكبه العراقيون إلى ترك كم كبير من الوثائق الهامة فى هذين المبنيين وعندما توجه المفتشون إليهما دون سابق إنذار تمكنوا بالفعل من رؤية هذه الوثائق والتحفظ على بعض منها. غير أن العراقيين رفضوا السماح للمفتشين بالمغادرة وبحوزتهم تلك الوثائق. وبدورهم رفض المفتشون، تحت رئاسة «كاى» من الوكالة و«جالوتشى» من «الأنسكوم»، ترك الوثائق، وقرروا البقاء فى الفناء المخصص لانتظار السيارات. واستمر هذا الاعتصام لمدة ثلاثة أيام بلياليها، ونقلته قنوات التليفزيون، فى ما اشتهر من بعد بأنه «مواجهة ساحة انتظار السيارات» بين المفتشين والعراقيين.
وفى النهاية استسلم العراقيون، وكان من بين الوثائق التى تم التحفظ عليها تقارير تحدد مدى التطور فى تصنيع أسلحة نووية. وبينما أوضحت هذه الوثائق أن الوصول إلى مرحلة تصنيع السلاح النووى كان سيستغرق من العراق عاما إضافيّا أو عامين، إلا أنها أظهرت بوضوح نية الجانب العراقى، وأن هذا الجانب من البرنامج كان كبيرا وكان يتم تنفيذه وتوفير التمويل اللازم له بدون أدنى تردد أو تقتير.
وفى نهاية العام نفسه تلقى «كاى» جائزة من الوكالة، وهو ما حدا بمبعوث العراق لدى الوكالة، الدكتور رحيم الكتل، للاعتراض رسميّا أمام «بليكس». وقد تضمنت شكوى المندوب العراقى الادعاء بقيام مفتشين بتصرفات كان من بينها إلقاء الوثائق الرسمية على الأرض والسير عليها، وأيضا التهديد بجلب طائرات حربية أمريكية للتدخل أثناء عمليات التفتيش، بل إن مذكرات الاحتجاج العراقية تضمنت إشارات لقيام أعضاء من فرق التفتيش بتحطيم أسوار وقطع أسلاك التليفونات بل «والظهور عرايا فى فناء بعض البنايات المحاطة بعمارات سكنية».
وعلى الرغم من أنه لم يتم أبدا التحقق من صدق الدعاوى الواردة فى مذكرة الاحتجاج هذه، فقد كان من الواضح أن «كاى» وغيره كان لديهم تصور بأن اتباع النهج العدوانى من شأنه إجبار العراقيين على التعاون فى تقديم المعلومات والأدلة. وعلى الرغم من أنه من الممكن القول بأن بعض ما تم من ضغط فى إطار ما وصف بـ«المواجهة فى ساحة انتظار السيارات» كان ربما مطلوبا بدرجة ما، وأنه كان فى المحصلة النهائية مجديا، إلا أننى وبصفة عامة أجد أن مثل هذا النمط من السلوك يضر أكثر مما يفيد. إن اللجوء إلى نهج عدوانى يدمر فرص التعاون على المدى الطويل. وبغض النظر عن الدوافع وراء السلوك الذى انتهجه أفراد فريق التفتيش فإن الأكيد أن ما قام به المفتشون فى حينه لن يمحى بسهولة من ذاكرة العراقيين، بل ومن ذاكرة العالم الإسلامى عموما. ولكن العراقيين الذين كانوا قد خرجوا لتوِّهم خاسرين من الحرب لم يكن بوسعهم سوى الرضوخ أمام هذا النوع من السلوك.
لكن أسوأ ما قام به «كاى» و«جالوتشى» كان قرارهما بإرسال الأوراق الحساسة للخارجية الأمريكية قبل أن تتاح الفرصة للوكالة الدولية أو «الأنسكوم» أن يتلقيا نُسخا من هذه الأوراق. وأصر «جالوتشى» على أن السبب وراء هذا التصرف هو أن وسيلة الاتصال مع الإدارة الأمريكية «كانت مؤَمَّنة أكثر». ولكن نتيجة هذا العمل أضرت بصورة الوكالة و«الأنسكوم»، ليس فقط فى نظر العراقيين ولكن أيضا أمام المجتمع الدولى بكامله. فعلى الرغم من أن الإجماع الدولى كان داعما لعمليات التفتيش فى العراق، غير أن الدول كانت تتابع بكثير من الاهتمام الطريقة التى يتم بها التفتيش؛ حيث كانت هناك حساسية كبرى من أن يبدو فى سلوك المفتشين الدوليين ما يوحى بتواطئهم مع جهاز المخابرات الأمريكية أو غيره من أجهزة المخابرات. ولم تتمكن «الأنسكوم» أبدا من التخلص من هذه الصورة، وهو ما أدى فى النهاية إلى حلها.
ولقد تمت عمليات التفتيش فى العراق على ثلاثة مسارات متوازية، الأول كان يهدف لتوضيح المعلومات المتاحة حول برنامج التسلح النووى العراقى بما فى ذلك التوصل إلى الأماكن المتوقعة للاختبارات شديدة الانفجار. المسار الثانى كان التمهيد لإخلاء العراق من اليورانيوم عالى التخصيب. أما المسار الثالث فقد تركَّز على تفكيك معدات التخصيب، حيث تم تدمير أجهزة الطرد وتحطيم أجهزة فصل النظائر مغناطيسيّا باستخدام آلات من البلازما مخصصة لذلك، كما تم كذلك إتلاف الأدوات الخاصة بالتعامل مع المواد النووية مثل الخلايا الساخنة وصناديق القفازات الخاصة، حيث كان يتم قطع أسلاك التحكم وملء الحاويات بالأسمنت.

Monday, September 17, 2012

سنوات الخداع - 2

 

محمد البرادعي

 

يتطلب تقدير المشهد النووى فى 2003 العودة إلى أوائل التسعينيات عندما تم الكشف عن برنامجين نوويين سريين،
أولًا: برنامج صدام حسين السرى لتطوير أسلحة نووية، الذى اكتُشف فى أعقاب حرب الخليج سنة 1991،
وثانيًا: برنامج كوريا الشمالية لتحويل البلوتونيوم وإخفاء المنشآت النووية، والذى كشفت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى العام التالى.
وبالنسبة إلى العراق كان ما تعرفه الوكالة عن برنامجها النووى عند بداية حرب الخليج الأولى مقصورًا على مركز البحوث النووية فى «التويثة» الذى يقع على مسافة قريبة جنوب شرق بغداد.
وكان العراق قد أعلن للوكالة عن مفاعلين بحثيين يقعان فى «التويثة»، وكذلك معمل صغير لصنع الوقود ومنشأة للتخزين.
وكانت الوكالة تقوم بالتفتيش على هذه المنشآت مرتين كل عام للتحقق من أن أيًّا من المواد النووية المعلنة لم يتحول من الاستخدام السلمى إلى صنع الأسلحة.
وفى أعقاب الحرب وجد مفتشو الوكالة دلائل على أنشطة نووية أخرى فى «التويثة» وسلسلة من المواقع الخفية الأخرى فى أنحاء البلاد لم يتم الإبلاغ عنها.
وقد وُجِّه اللوم حينئذ إلى الوكالة لعدم اكتشافها هذه الجوانب الخفية من برنامج العراق النووى قبل ذلك. لكن هذا اللوم كان يرجع فى معظمه إلى الصلاحيات المحددة للتفتيش المقررة للوكالة، والتى كانت مقصورة على التحقق مما أعلنت الدولة عنه. باستثناء سلطة محدودة وآليات قليلة للبحث عن المواد والمنشآت التى قد تكون غير معلنة.
وإذا كانت صلاحيات التحقق فى هذا الوقت تبدو ساذجة للغاية، فإنها كانت كذلك فعلًا، فبالنسبة إلى الأنظمة التى اختارت أن تُخفى أنشطتها غير المشروعة، كانت الوكالة فى نظرها بمثابة الشرطى الذى يمكن خداعه، ومع ذلك تكاثرت الأسئلة:
لماذا لم تواجه الوكالة العراقيين لعدم اكتمال إقرارهم؟
لماذا لم تطلب الوكالة إجراء عمليات تفتيش خاصة؟
كيف أن الوكالة لم تنتبه إلى طموحات العراق النووية الأوسع نطاقًا؟
ولهذه الأسئلة إجابات جيدة، فبالإضافة إلى مسألة سلطات الوكالة المحدودة، لم تكن هناك معلومات مخابراتية كافية فى ذلك الوقت حول البرامج النووية الخفية للعراق أو إذا كانت موجودة، فإنه لم يتم إبلاغ الوكالة بها. على أن الفهم الصحيح للوضع يتطلب معرفة أمور أخرى كذلك:
1- بضع نقاط تتعلق بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، التى تستمد منها الوكالة الكثير من صلاحيات التحقق الموكولة إليها.
2- عرض مبسط لدورة الوقود النووى، وذلك لتصحيح مفهوم أو مفهومين خاطئين شائعين.
دخلت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية حيز النفاذ فى سنة 1970. وعلى الرغم من عيوبها الكثيرة، فإنها من أكثر المعاهدات التى انضمت الدول إليها فى التاريخ. فبنهاية سنة 2010 بلغ عدد الدول الأطراف فيها 198 دولة، بينما لم ينضم إليها ثلاث دول فقط، هى الهند وباكستان وإسرائيل، وانسحبت منها كوريا الشمالية بعد انضمامها.
وترتكز معاهدة حظر الانتشار على ثلاثة مبادئ اتفقت عليها الدول الأطراف، وتمثل هذه المبادئ الثلاثة معًا حالة دقيقة من التوازن.
فأولًا: تتعهد الدول الأعضاء التى لا تمتلك أسلحة نووية، والمعروفة بالدول غير النووية، بأن لا تسعى للحصول على مثل هذه الأسلحة أو تطويرها. وتلتزم كل من هذه الدول بإبرام اتفاق ثنائى ملزم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يطلق عليه اتفاق الضمانات الشاملة.
وبموجب هذا الاتفاق تَعِد الدولة بوضع كل المواد النووية التى تمتلكها فى إطار نظام ضمانات الوكالة، وذلك للتأكد من خلال التفتيش الفعلى وإجراءات دقيقة للمحاسبة من أن المواد لن تُحوّل للاستخدام فى الأسلحة النووية. ويعطى اتفاق الضمانات للوكالة سلطة التحقق من «امتثال» الدولة لذلك.
وثانيًا: فإن جميع الدول الأطراف فى المعاهدة تتعهد بإجراء مفاوضات بـ«حُسن نية» من شأنها أن تؤدى إلى نزع السلاح النووى. ويشمل ذلك تحديدًا الدول الخمس التى تقر المعاهدة بأنها تمتلك أسلحة نووية، وهى: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، التى يطلق عليها الدول المالكة للسلاح النووى. وتتعهد هذه الدول كذلك بأن لا تساعد الدول غير النووية على الحصول على أسلحة نووية.
وثالثًا: يوافق جميع أطراف المعاهدة على تسهيل استخدام الطاقة النووية فى الأغراض السلمية فى جميع الدول الأعضاء، مع الاهتمام بوجه خاص باحتياجات الدول النامية. ويشمل ذلك تبادل المعدات والمواد والمعلومات العلمية والتكنولوجية ذات الصلة.
هناك مثالب كثيرة فى المعاهدة، فهى، كما سبق أن أوضحت، ضعيفة من حيث التطبيق:
فلم يكن ينتظر من الوكالة، طوال عدة عقود سوى التفتيش أو التحقق مما تعلن عنه الدول الأطراف فى المعاهدة. بل إن الجوانب المتعلقة بنزع السلاح فيها أكثر ضعفًا: فليست هناك آلية للتحقق من التقدم الذى تعهدت الأطراف بتحقيقه فى شأن مفاوضات نزع السلاح، وليس هناك جهاز محدد للإشراف، ولا جزاء على عدم الامتثال. وأخيرًا فإن المعاهدة تنطوى على تناقض ظاهر: فامتثال الدول الأطراف للشق الثالث من الصفقة تسهيل تبادل المعدات والمواد والمعلومات النووية للأغراض السلمية يعنى قيامها فى الوقت نفسه بزيادة قدرات الدول غير النووية على السعى للحصول على أسلحة نووية إذا ما أرادوا، وبصفة خاصة إذا دخل فى ذلك بعض تكنولوجيات دورة الوقود النووى.
ويرجع هذا المأزق إلى الإمكانية المزدوجة التى تنطوى عليها العلوم والتكنولوجيا النووية، والتى هى من صميم الدبلوماسية النووية. فالعلوم النووية مثال واضح للحيرة التقليدية.
فالمجتمعات البشرية تستطيع أن تستخدم تقدمها التكنولوجى إما للخير وإما للشر. وسواء أسفر الاستخدام النهائى عن السحابة التى تنتج عن التفجير النووى أم عن نظير مشع لعلاج السرطان، فإن جانبًا كبيرًا من العلوم والتكنولوجيات التى تؤدى إلى أى من الأمرين متماثلة. فالقصد فقط هو الذى يختلف:
هل ستستخدم المعرفة النووية المكتسبة من أجل العدوان العسكرى والتدمير واسع النطاق؟ أم من أجل تحقيق المنافع النووية التى أصبح أبناء البلدان المتقدمة يعتبرونها أمرًا مفروغًا منه مثل الطاقة والطب أو زيادة الإنتاجية الزراعية ومكافحة الآفات، واستخدام المياه الجوفية أو الاختبارات الصناعية؟
فإذا كان حصول المزيد من الدول على الأسلحة النووية أمرًا غير مقبول فإن إنكار حقها فى استخدام العلوم النووية للأغراض السلمية أمر لا مبرر له على الإطلاق، وكان يمكن أن يؤدى إلى عدم إبرام معاهدة حظر انتشار الأسلحة أصلًا.
نتناول الآن دورة الوقود النووى. فمصطلحات مثل التخصيب، وتحويل اليورانيوم، وفصل البلوتونيوم، أصبحت عبارات شائعة من خلال ظهورها فى مقالات صحفية ووثائق متعلقة بالسياسات. ومع ذلك فإننى كثيرًا ما أجد أن هناك سوء فهم لطبيعة هذه العمليات النووية والغرض منها ومدى مشروعيتها. وحتى نفهم المصالح التى ترتبط بالدبلوماسية النووية، لا بد لغير المتخصص أن يكون لديه فهم أولىُّ لدورة الوقود الشاملة وأجزائها التى تساعد على انتشار الأسلحة النووية.
ومع ذلك فإن من الخطر، حتى بالنسبة إلى أكثر القانونيين إلمامًا بالموضوع، الإسهاب فى الحديث عن التكنولوجيات النووية، ومن ثم فإننى سأقتصر فى شرحى لدورة الوقود النووى على سلسلة بسيطة من الخطوات.
1- التعدين: يستخرج اليورانيوم من باطن الأرض. ونظرًا لأنه موجود فى الطبيعة فإنه يتكون أساسًا من نظير اليورانيوم 238 الذى يحتوى على حوالى 0.7% من يورانيوم 235، وهو مادة انشطارية، أى أنه يستطيع تحمل سلسلة التفاعلات النووية:
2- الطحن: تتم معالجة الخام بطحنه وتبييضه كيميائيًّا لإنتاج «الكعكة الصفراء» التى تحتوى على مركزات اليورانيوم.
3- التحويل: يتم تحويل «الكعكة الصفراء» بواسطة سلسلة من العمليات الكيميائية، إلى غاز هيكسا فلورايد اليورانيوم «UF6»، وهو مادة التلقيم التى تغذى بها أجهزة الطرد المركزى لإجراء التخصيب. ويظل هذا الغاز فى تلك المرحلة يعتبر «يورانيوم طبيعى» لأن نسب تركيز اليورانيوم 238 واليورانيوم 235 لم تتغير.
4- التخصيب: مع تلقيم أجهزة الطرد المركزى بغاز «UF6» يتزايد تركيز اليورانيوم 235 وينخفض بذلك تركيز اليورانيوم 238 بالقدر نفسه، ويؤدى التخصيب إلى جعل اليورانيوم أكثر قدرة على توليد الطاقة النووية.
5- تصنيع الوقود: يحوّل اليورانيوم المخصب إلى مسحوق ثم يحوّل إلى كريات فخارية توضع فى قضبان الوقود التى تنظم بعد ذلك فى مجمعات وقود يزود بها قلب المفاعل بالطاقة.
6- التخزين: بعد استخدامه فى المفاعل، فإن الوقود النووى المستنفد الذى أصبح فى معظمه الآن يورانيوم 238 ولا يكفى ما تبقى به من يورانيوم 235 لتحمل التفاعلات فإنه يتم تخزينه عادة فى ما يعرف بـ«حوض الوقود الناضب». ويحتوى الوقود المستنفد كذلك على حوالى 1% من البلوتونيوم الانشطارى الذى ينشأ كمنتج ثانوى فى المفاعل.
7- إعادة المعالجة: نظرًا لأن نسبة قليلة من الطاقة النووية هى التى تستخدم فى دورة مفاعل عادى، فإن بعض الدول تعيد تجهيز الوقود المستنفد بأن تستخلص منه (أو تفصل) اليورانيوم والبلوتونيوم لإعادة استخدامه.
وتشبه أجهزة الطرد المركزى الغازية المستخدمة فى تخصيب اليورانيوم أسطوانة معدنية طويلة ونحيفة تتصل بها مداخل ومخارج الأنابيب، وهى تدور بسرعات عالية للغاية، بأكثر من 20 ألف لفة فى الدقيقة، أى بسرعة تكفى لفصل ذرات اليورانيوم 238، التى يزيد وزنها بثلاث نويدات على اليورانيوم 235، بحيث تنتقل إلى خارج الأنبوب، وتنفصل عنه مع خروجها. وعندما توضع أجهزة الطرد المركزى متجاورة فى صف أو فى شكل متتابع، ينتقل غاز الـ«UF6» من جهاز إلى آخر ويتم تخصيبه تدريجيًّا بحيث تزيد فيه نسبة اليورانيوم 235.
ونظرًا لأن اليورانيوم 235 لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من اليورانيوم الطبيعى، فإن إنتاج كمية قليلة جدًّا منه يتطلب كمية كبيرة للغاية من مادة التلقيم. ويقتضى ذلك أن تدور أجهزة الطرد المركزى معها أسابيع وشهورًا، مما يعنى أنه ليس من السهل تصميمها أو بناؤها، وأنها تصنع من مواد خاصة يمكنها أن تتحمل هذا الإجهاد.
وتحتاج معظم مفاعلات الماء الخفيف، التى تستخدم الوقود النووى لتوليد الكهرباء، يورانيوم مخصب بنسبة 3.5% باليورانيوم 235. ويقصد بـ«اليورانيوم عالى التخصيب» أى مستوى من التخصيب يتجاوز 20%. واليورانيوم المخصب بنسبة 90% أو أكثر يعتبر عادة خاصًّا بالسلاح. ومع ذلك فإن كثيرًا من المفاعلات البحثية فى العالم تستخدم وقود يورانيوم مخصبًا بنسبة 90% للأغراض السلمية مثل إنتاج النظائر الطبية.
وعلى خلاف المفهوم الخاطئ الشائع فإن الخطوات من 1 إلى 7 كلها عناصر فى دورة سلمية للوقود النووى. وعلى الرغم مما يفهم أحيانًا من الصحف فإن تخصيب اليورانيوم (أو فى هذه الحالة فصل البلوتونيوم) لا يدل بالضرورة على العزم على صنع أسلحة نووية. وما دام البلوتونيوم واليورانيوم عالى التخصيب هما المادتان النوويتان اللتان يمكن استخدامهما بشكل مباشر فى الأسلحة النووية، فإن الجانبين اللذَيْن يتسمان بأكبر قدر من الحساسية، من منظور الانتشار، فى دورة الوقود هما بالتالى إعادة المعالجة، التى يفصل فيها البلوتونيوم، والتخصيب الذى يمكن فيه الوصول إلى يورانيوم عالى التخصيب.
لكن المادتين يمكن استخدامهما فى وقود المفاعل لتوليد الكهرباء. ومن ثَم فإن أيًّا من عمليات الوقود النووى هذه لا يعتبر غير قانونى، وتندرج كلها ضمن حقوق أى طرف فى معاهدة حظر الانتشار. هناك بطبيعة الحال بعض النقاط التى يجب أخذها فى الحسبان: فالمنشآت والأنشطة ذات الصلة يجب أن تكون «مُعلنة» أو تم إبلاغ الوكالة بها، كما أن الضمانات يجب أن تطبق للتحقق من أن المادة النووية المستخدمة تم حسابها، ومن أنها لم تحول إلى الاستخدام فى الأسلحة.
هناك اثنتا عشرة دولة تقريبًا لديها عمليات يعتد بها لدورة الوقود النووى، لذا فإن عددًا معقولًا من الدول غير النووية لديها مخزونات من البلوتونيوم (الذى تم فصله من إعادة معالجة الوقود النووى المستنفد)، أو اليورانيوم عالى التخصيب والذى يكون جاهزًا للاستخدام فى برنامج للأسلحة النووية. ومع تزايد عدد البلدان الصناعية وانتشار المعرفة النووية فإن من المرجح أن مزيدًا من الحكومات ستنظر فى المزايا الاقتصادية والاستراتيجية وغيرها من المزايا التى يتيحها امتلاك دورة الوقود النووى.
وهنا مربط الفرس، ذلك أن اتساع نطاق التكنولوجيا النووية يكون مصحوبًا بخطر انتشار متزايد، ومن هنا فإن الدول التى تمتلك بالفعل دورة وقود نووى لا تكون راغبة فى التخلى عنها، كما أنها تفضل عدم حصول دول أخرى عليها. والذين لا يملكونها يستاؤون من هذا الوضع. على أنه وفقًا للتوازن الذى تمثله صفقة معاهدة حظر الانتشار فإن الذين يملكون معرفة وتكنولوجيا نووية سلمية ملزمون بتقاسمها معهم. وأكثر ما يستاء منه الذين لا يملكون هو أن الدول المالكة للأسلحة النووية لم تقم بدورها فى هذه الصفقة، أى أن تتفاوض بـ«حسن نية» و«فى وقت مبكر» من أجل نزع السلاح النووى. فالمالكون يتمتعون بوضع قد تتوق إليه دول أخرى ما دامت الأسلحة النووية أصبحت مرادفًا للقوة والنفوذ السياسيين وضمانًا ضد عدم التعرض للهجوم.
وأخيرًا فإن ظهور أول برنامج نووى سرى فى العراق وكوريا الشمالية فى أوائل التسعينيات ربما لم يكن ينبغى أن يكون مفاجأة، فبانتهاء الحرب الباردة لم يعد من الممكن الاعتماد على توازن القوى بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة للحفاظ على سلام نسبى. من المفهوم إذن أن تشعر بعض البلدان التى لا تتمتع صراحة بحماية «مظلة نووية»، كتلك التى يتمتع بها أعضاء الناتو وغيرهم من حلفاء الولايات المتحدة، بشعور متزايد بعدم الأمن. وفى ضوء هذا فأية وسيلة أفضل لها من تطوير الأسلحة النووية سرًّا؟
كان ذلك هو السياق الذى اكتشف فيه البرنامج النووى للعراق فى نهاية حرب الخليج فى سنة 1991.
وبينما أشارت الولايات المتحدة إلى تطلعات العراق النووية كأحد أسباب التدخل العسكرى. فالواقع أن ما كان معروفًا عن قدرات العراق النووية الفعلية قبل الحرب كان ضئيلًا. ويبدو أن بعض رجال المخابرات الأمريكية كانوا يفترضون أن لدى العراق تطلعات للحصول على أسلحة نووية بناء على مؤشرات من بينها محاولات العراق الحصول على المكونات اللازمة للتخصيب النووى وتكنولوجيات نووية أخرى من عدد من الدول الأوروبية.
على أن أيًّا من هذه المعلومات لم يقدم للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وخلال الشهر أو الشهرين السابقين للحرب بدأ عدد من المنافذ الإعلامية نشر تقارير صريحة دون أن يكون هناك دليل عليها عن قدرات نووية عراقية محددة. ولعل أفضل مؤشر على محدودية الاستخبارات الغربية قبل الحرب هو ما قيل من أن الولايات المتحدة قد وضعت على قائمة المواقع المستهدفة بالقصف موقعين نويين فقط، بينما أسفر التفتيش بواسطة الوكالة بعد الحرب عن التعرف على ثمانية عشر موقعًا نوويًّا. والواقع أن غزو صدام حسين واحتلاله الكويت كان هو المبرر الأساسى للغزو الذى قام به الائتلاف، والذى قادته الولايات المتحدة.
وفى 3 أبريل 1991، أى بعد أقل من شهرين من انتهاء الحرب، وضع مجلس الأمن مجموعة من الشروط القاسية التى كان على العراق الامتثال لها. وكان ذلك يشمل بطبيعة الحال التزامات مثل احترام الحدود بين العراق والكويت، وإعادة الممتلكات الكويتية، وتعويض الكويت عن الإصابات والأضرار والخسائر التى أصابتها. لكن جانبًا كبيرًا من القرار خُصص لطلب المجلس أن يتخلص العراق من أسلحة الدمار الشامل.
وفى المجال النووى دعا القرار (687) العراق إلى أن يعلن صراحة عن كل منشآته النووية وما يوجد لديه من مواد تستخدم فى صنع الأسلحة النووية.
وطلب القرار إلى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بعمليات تفتيش فورية بناء على الإقرارات التى يقدمها العراق، وأن يضع خطة لتدمير أى قدرات نووية ذات صلة بالأسلحة وإخلاء العراق منها خلال خمسة وأربعين يومًا.
وأنشأ القرار كذلك اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة «UNSCOM» التى كُلفت بمهمة مماثلة تتعلق ببرنامج العراق للأسلحة البيولوجية والكيماوية ونظم صواريخ الإطلاق بعيدة المدى.
وأعطيت الوكالة واللجنة الخاصة سلطة مطلقة للقيام بمهمتهما «فى أى وقت وأى مكان» للبحث عن برامج العراق لأسلحة الدمار الشامل والقضاء عليها. وكان ذلك يبدو، فى نظر المفتش حلمًا. لكنه تحقق فقط لأن العراق كان قد تعرض لهزيمة عسكرية قاسية، وما من دولة كانت لتقبل مثل هذه الشروط فى ظل ظروف أخرى.
وصل أول فريق تفتيش تابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، برئاسة كبير المفتشين «ديمتريوس بيريكوس»، إلى بغداد فى 14 مايو 1991 وتوجه مباشرة إلى الموقع النووى فى «التويثة». وكانت الصور التى تم التقاطها من الجو تدعو الفريق إلى توقع مشهد دمار فى أعقاب حرب الخليج. وبالفعل كانت كل المبانى الكبيرة فى «التويثة» قد أصيبت إصابة مباشرة من جراء القصف.
وكان الهدف الأول للمفتشين تحديد موقع وقود اليورانيوم عالى التخصيب المخصص للمفاعلين البحثيين وتأمينه. وكان الخبراء الفنيون العراقيون حريصين على المساعدة. ووسط دهشة المفتشين اتضح أن الوقود المشع قد نقل فى ذروة القصف، حسبما ذكر العراقيون، وكانوا قد أعادوا دفنه فى حفر أسمنتية تم بناؤها على عجل، وبغير أى ملامح فى أرض زراعية فى منطقة جرف النداف المجاورة، وذلك تفاديًا لتدمير الوقود وتناثر الإشعاع. وتمكن المفتشون، بمساعدة من العراقيين، من تحديد الموقع مباشرة وبدء التحقق من كل المواد النووية الجارى البحث عنها تقريبًا، وذلك بناء على الجرد الذى كان قد أُعد قبل الحرب.
على أن تحقيق الهدف الأساسى الثانى الكشف عن أية أنشطة نووية لم يسبق الإعلان عنها اكتنفه تعقيدات أكثر بكثير. فقد اتضح، بالإضافة إلى الدمار الذى أحدثه القصف، أن العراقيين أنفسهم قاموا بتفكيك الأبنية، حيث بدا بعضها وكأن المعدات قد انتُزعت منه. وكانت هناك مؤشرات على أن سجلات التشغيل وغيرها من الوثائق قد أُحرقت. كان من الصعب إذن التحقق من أغراض منشآت «التويثة» التى لم يسبق التفتيش عليها بمعرفة الوكالة من قبل.
وقد أُبديت نفس الملاحظات بالنسبة إلى موقع آخر شمال بغداد فى «طارمية» الذى تردد أنه تجرى به أنشطة نووية. ذكر العراقيون أن منشآت «طارمية» تستخدم لصنع محولات كهربائية. لكن فريق الوكالة رأى أن هذا التفسير لا يتفق مع بعض الوقائع مثل الأحمال الكهربائية الهائلة التى كانت «طارمية» تستهلكها، وكذلك حجم وترتيب معدات توزيع الكهرباء فيها، وعندما تم توضيح هذا التباين لم يتمكن العراقيون، أو لم يرغبوا، فى تقديم تفسيرات مقبولة.
وحتى فى هذه المرة الأولى التى يجرى فيها التفتيش بدأ التحدى الذى يواجه مفتشى الوكالة المعنيين بالضمانات فى الظهور.
ومن المناسب هنا أيضًا تصحيح مفهوم خاطئ ولكنه شائع، أن مفتشى الوكالة ليسوا مخبرين وليسوا ضباط أمن أو شرطة.
إنهم تعوّدوا على البحث عن أوجه التباين الكمية والنوعية وإبرازها بما فى ذلك التمويه المتعمد كما أنهم لا يتقاعسون عن مواجهة الطرف الخاضع للتفتيش بالدليل على ما يجدون. لكن أسلوبهم فى ذلك يتسم بالاحترام سواء كانت الدولة المعنية هى كندا أم جنوب إفريقيا أم اليابان أم هولندا أم، كما هو الحال هنا، العراق.
وأعتقد من جانبى أن هذا الاحترام، وهو سمة بارزة فى أعمال التفتيش التى تجريها الوكالة، قد ثبت مرارًا أنه من الأمور الأساسية التى تضاف إلى رصيد الوكالة.
والوكالة، فضلًا عن ذلك، ليست وكالة للتجسس، ومفتشونا لا يقومون بالتجسس أو يلجؤون إلى الخديعة للوصول إلى الحقيقة.
ونحن ليست لدينا إمكانية الوصول إلى قواعد البيانات الخاصة بالشرطة أو الإنتربول أو وكالات الاستخبارات الوطنية ما لم تقرر هذه الهيئات تمكيننا من الحصول على هذه البيانات.
كذلك فإننا لا نبلغ هذه الهيئات بالنتائج السرية التى تسفر عنها أعمال التفتيش. وبالإضافة إلى ذلك فالمعلومات توزع فى نطاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على من يكون من الضرورى أن يعرفها فقط.

Sunday, September 16, 2012

سنوات الخداع -1

 

 

377851_506874206008023_1532700402_n

 

كتاب سنوات الخداع … للدكتور محمد البرادعى … الحلقة الأولي


قرار أمريكا بالحرب ضد العراق اتُّخذ قبل أن تبدأ عمليات التفتيـــــــــــــش عن الأسلحة النووية بكثير
فى تقريرى إلى مجلس الأمن فى 27 يناير 2003 قلت «لم نجد حتى اليوم أى دليل على أن العراق قام بإحياء برنامج الأسلحة النووية الخاص به»
«ساعدونا على أن نساعدكم».
ابتسم الرجل الجالس على الجانب الآخر من المائدة، لكنى لم أقرأ فى تعبيرات وجهه أى سعادة. لقد انبسطت عيناه، وتهدل طرفا فمه. هل كان ذلك حزنا أم إرهاقا؟ لم أتبين ذلك تمامًا.
كنا فى التاسع من فبراير عام 2003. كان قد مضى أكثر من اثنى عشر عامًا منذ أصدر مجلس الأمن أول قراراته بفرض عقوبات على العراق. وبعد شهر أو نحوه سيكون هناك غزو جديد للعراق بقيادة الولايات المتحدة. وكان صدام حسين قد وافق مؤخرًا على عودة مفتشى الأمم المتحدة المختصين بالتفتيش على الأسلحة إلى العراق، بينما كنا («هانز بليكس» وأنا)، نقوم بصفتنا رئيسَى الفريقين الدوليَّيْن، بزيارتنا الثالثة إلى بغداد. وكانت تلك ليلتَنا الأخيرة فيها، حيث دعانا وزير الخارجية العراقى ناجى صبرى، إلى العشاء مع أهم مستشارينا ومجموعة من نظرائهم العراقيين.
كان المطعم الذى دُعينا إليه هو أرقى المطاعم التى لا تزال باقية فى المدينة، فقد تآكلت البنية الأساسية لبغداد حتى النخاع، على نحو أظهر ما أدت إليه العقوبات من آثار. ومع ذلك كان العَشاء أنيقا، والقائمون بالخدمة يتسمون باللياقة، ومفرش المائدة الأحمر غاية فى النظافة. وكان العَشاء حافلا بالأسماك المشوية التى يزخر بها نهر دجلة. وكانت أسياخ الكباب متبلة كأحسن ما يكون، وحفلت المائدة بما هو أكثر: النبيذ، وكانت تلك مفاجأة، ذلك أن قرارًا صدر فى سنة 1994 بمنع تناول الكحوليات فى الأماكن العامة فى العراق. لكن العراقيين رأوا استثناء هذه الليلة إكرامًا لضيوفهم القادمين من الخارج.
كان الرجل الجالس على الجانب الآخر من المائدة هو اللواء (الجنرال) عامر حمودى حسن السعدى كبير المستشارين العلميين لصدام حسين، وكانت رتبة «اللواء» هذه فخرية بالأساس. فهو مفاوض مهذب ذو كاريزما واضحة، يحمل درجة الدكتوراه فى الكيمياء الطبيعية ويتحدث الإنجليزية والعربية بنفس الطلاقة، كما أنه يفضّل الملابس المدنية عن الزى العسكرى. ورغم أنه لم يكن عضوًا فى حزب البعث فإنه كان الرجل العلمى الأول فى الحكومة العراقية.
اتجهنا («بليكس» وأنا)، بالحديث فى أثناء العشاء نحو موضوع حَرِج: الحاجة إلى مزيد من التعاون، ومزيد من الوثائق. قلنا لهم إنكم تُصرّون على أنه ليست لديكم أسلحة دمار شامل، وتقولون إنكم لم تعيدوا إحياء برامجكم السابقة فى هذا الصدد، ولكننا لا نستطيع أن نغلق هذا الملف هكذا ببساطة رغم أن سجلاتكم لم تكتمل. يلزمنا مزيد من الأدلة، وكلما أبديتم مزيدًا من الشفافية وقدمتم مزيدًا من الوثائق والأدلة المادية، كلما كان ذلك أفضل للعراق على الساحة الدولية. فما الذى تستطيعون تقديمه غير ما قدمتموه فعلا لسد الفجوة فى المعلومات المقدمة من جانبكم؟ «ساعدونا على أن نساعدكم».
كان الجالس إلى جانب السعدى هو حسام أمين رئيس مجموعة الاتصال العراقية مع الأمم المتحدة. وقد انحنى إلى الأمام مجيبا «دعونا نتحدث بصراحة. فبداية لا نستطيع أن نعطيكم المزيد، لأنه ليس هناك المزيد الذى يمكن أن نعطيه». واتجه بنظره إلى «بليكس» ثم عاد إلىّ. «وثانيا أنتم لا تستطيعون مساعدتنا لأن هذه الحرب ستقع لا محالة، وما من شىء يمكنكم أو يمكننا القيام به سيحول دون وقوعها. وكلانا يعرف ذلك. أيًّا ما كان ما نقوم به، فهذا أمر تم حسمه».
اعتدل فى مقعده، وأومأ السعدى برأسه ولم يقل شيئًا. ظل الحزن باديا فى ابتسامته. وبالرغم من وجهة نظر أمين هذه، فقد رفضتُ الاعتقاد بأن الحرب حتمية، فالوكالة الدولية للطاقة الذرية التى أرأسها، وهى الجهة المسؤولة فى الأمم المتحدة عن التفتيش على الأسلحة النووية، كانت تحرز تقدمًا ملموسًا. كان ذلك يشمل متابعة كل المعلومات التى توافينا بها جهات الاستخبارات، ولكننا لم نتوصل إلى شىء. وفى تقريرى إلى مجلس الأمن، الذى قدمته فى 27 يناير 2003، ذكرت ما يلى «إننا لم نجد حتى اليوم أى دليل على أن العراق قام بإحياء برنامج الأسلحة النووية الخاص به». وقد أثار هذا التصريح نقدًا شديدًا من جانب المسؤولين الغربيين وكبار الإعلاميين الذين أقنعوا أنفسهم بغير ذلك. لكن هؤلاء المنتقدين كانوا يُشيرون إلى ظروف احتمالية مثل: ماذا لو حدث هذا أو ذاك؟ ويعتبرونها أدلة. أما ما قلته أنا فكان هو الحقيقة.
ولم تكن الوكالة بعد فى وضع يسمح لها بإبراء ذمة العراق تمامًا. لكننى ألححت على المجلس أن يسمح لعمليات التفتيش أن تأخذ مسارها حتى النهاية. وقلت «إن بضعة أشهر أخرى ستمثل استثمارًا قيمًا فى سبيل السلام». فإذا كانت مبررات الحرب الاستباقية ضد العراق تعتمد على أن صدام حسين أعاد إحياء برامج أسلحة الدمار الشامل، فأين هو الدليل على ذلك؟ وأين هو التهديد المباشر؟ وإذا كان أمين يقول الحقيقة، وأنه لم يعد لدى العراق المزيد الذى يمكن أن تقدمه، فإن ما يعنيه ذلك بوضوح أنه لم يكن هناك أى تهديد.
وكان من المؤكد أن حربًا لا مبرر لها سوف تؤدى إلى انقسام خطير فى العلاقة المتعثرة أصلا بين أولئك الذين يملكون الأسلحة النووية وأولئك الذين لا يملكونها. فكلٌّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يملكان أسلحة نووية، ولم يبدِ منهما أى استعداد للتخلى عنها، ومع ذلك فإنهما يهددان العراق بحجة أنه يسعى للحصول على مثل هذه الأسلحة. وبالنسبة إلى كثيرين فى العالم النامى، وفى المجتمعات العربية والإسلامية بوجه خاص، كان ذلك مدعاة للسخرية ونوعًا من عدم الإنصاف الصارخ. كان صدام حسين يتمتع بشعبية نسبية بين الجمهور العربى لمواقفه تجاه معاملة إسرائيل للفلسطينيين، ولموقفه المتحدى للغرب. لم يكن محبوبًا بين الحكام العرب الذين يميل أكثرهم إلى الغرب، ولا سيما بعد غزو الكويت فى سنة 1990، ولكنهم شعروا مع ذلك بالغضب لمعاملة العراق بهذا القدر من الاستهانة بسيادته. ولو أن حربا وقعت فعلا، ولا سيما إذا كانت بسبب تضخيم الاتهامات بشأن أسلحة الدمار الشامل، فإن الشعور بالغضب عبر العالمَيْن العربى والإسلامى سيتصاعد بشدة.
ومع مرور الأسابيع واحدًا تلو الآخر، ورغم إيمانى الشديد بقيمة ودور عمليات التفتيش، كان شعورى بعدم الارتياح يتزايد. وكانت نبرة خطاب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتزايد حدة. فقبل أربعة أيام فقط من عَشاء بغداد كان وزير الخارجية الأمريكى كولين باول، قد عرض الأمر على مجلس الأمن، وكان قد أذاع أشرطة لمحادثات هاتفية تم التنصت عليها، وعرض صورًا لمنشآت عراقية صورتْها الأقمار الاصطناعية، وأعلن أن هذه السجلات تدل على «أنماط غريبة من السلوك» من جانب صدام حسين ونظامه، وأنها «سياسة تهرب وخداع». وبالنسبة إلى جماعة المفتشين، كان العرض الذى قدمه باول تجميعا لافتراضات، ووصْفًا لبيانات لم يتم التحقق منها، وتم تفسيرها على أسوأ نحو. لم يكن هناك ما يثبت شيئًا مما يقال. ومع ذلك فإن كثيرًا من المستمعين، ولا سيما غير المتخصصين منهم، رأوا فى حجج «باول» ما يقنعهم.
خلال الأسابيع الستة التالية لم يكن بوسع أى تقدم فى عمليات التفتيش، أو فى الجهود الدبلوماسية، أن يسمح بتجنب الأزمة المحدقة. وأعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن الوثائق الأساسية للاستخبارات التى تدّعى الربط بين صدام حسين ومحاولة شراء اليورانيوم من النيجر مزيّفة. لكن هذا الكشف لم يكن له سوى أثر محدود. وبدلا من إيجاد حل أو مجرد موقف موحد، انتهى مؤتمر قمة عربى طارئ عُقد فى شرم الشيخ بغير نتيجة. كذلك أخفق اقتراح بريطانى قُدّم فى اللحظة الأخيرة فى تجنب العمليات العسكرية.
وفى وقت مبكر من صباح يوم 17 مارس تلقيتُ مكالمة من بعثة الولايات المتحدة فى فيينا تشير علينا بإخراج مفتشينا من بغداد.. كان الغزو على وشك أن يبدأ.
«إذا كان هناك خطر يخيّم على العالم فإنه خطر يتشاطر فيه الجميع، وبالمثل إذا كان هناك أمل يراود أمة واحدة فإن هذا الأمل يجب أن يتشاطر فيه الجميع». كانت تلك كلمات الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور، فى سنة 1953 فى خطابه عن «الذَّرّة من أجل السلام» الذى أسفر، بعد أربع سنوات، عن إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كانت الرسالة التى تضمنها ذلك الخطاب رسالة غير عادية، جاءت فى خضم سباق متزايد للتسلح النووى، ووجهت إلى مجتمع دولى لم يكن قد نسى بعد ويلات الحرب العالمية.
ومفهوم أيزنهاور عن الذرة من أجل السلام ذلك المفهوم الذى يدعو إلى التعامل مع ما تحققه العلوم النووية من منافع ومن مخاطر على نحو يتعاون فيه جميع أعضاء المجتمع الدولى هو المبدأ الأساسى الذى ترتكز عليه الدبلوماسية النووية. وهو يكاد يعتبر التزاما عالميًّا بتعزيز التعاون التكنولوجى فى الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، وبالحيلولة دون انتشار الأسلحة النووية، وهو التزام مزدوج ينص عليه النظام الأساسى للوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعاهدة 1970 الشهيرة بشأن حظر انتشار الأسلحة النووية.
وباعتبارى محاميًا مصريًّا شابًّا، وأستاذًا للقانون الدولى فى نيويورك فى أوائل الثمانينيات، شعرتُ بتجاوب مع مفهوم الذرة من أجل السلام. وقد التحقتُ بالوكالة الدولية للطاقة الذرية فى سنة 1984 وأصبحت مستشارًا قانونيًّا لها بعد ذلك بثلاث سنوات. وعندما وقعتْ حرب العراق فى 2003 كان قد مضى علىّ فى منصب المدير العام للوكالة خمس سنوات وعقدان تقريبا منذ التحاقى بها. وقد انخرطتُ فى مهام الوكالة فى مجال الدبلوماسية النووية، لذا فإن قيام حرب بسبب اتهامات لم تثبت بشأن أسلحة دمار شامل، وإبعاد الوكالة عن دورها فى مجال الدبلوماسية النووية، وجعْلها مجرد واجهة لإسباغ الشرعية، كان بالنسبة إلىّ تشويهًا فظيعًا لكل ما كنا ندافع عنه. كان ذلك يتعارض مع الجهود التى بذلها لمدة نصف قرن تقريبا علماء وقانونيون ومفتشون وموظفون عموميون مخلصون من جميع قارات العالم.. كنت مذهولا بما أشهد. والفكرة التى لم تترك رأسى هى تأكدى من أنه ما من شىء يكون «بليكس» أو أنا قد شاهدناه يمكن أن يبرر شنَّ مثل هذه الحرب.
وقد سلّم اللواء عامر السعدى شريكى الحزين فى حفل العشاء، نفسه إلى قوات الائتلاف فى 12 أبريل 2003، بعد أن علم أنه كان ترتيبه الثانى والثلاثين فى قائمة العراقيين المطلوبين، والورقة الرابحة فى أوراق الكوتشينة. وقد طلب إلى قناة «ZDF» الألمانية أن تصور استسلامه. وفى حديثه من خلال الكاميرا قال إنه «ليس لدينا أسلحة دمار شامل والزمن كفيل بإثبات صحة ما أقول». كان واضحًا بالنسبة إلىّ عندئذ أن استنتاجنا الأولىّ بشأن الأسلحة النووية كان صحيحا لأنه لم يكن لدى السعدى فى هذا الوقت أى سبب للكذب.
وخلال السنوات التى انقضت أكدت مصادر عديدة أن المبرر الذى ذُكر للغزو الذى حدث فى مارس 2003، وهو ادعاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن برامج صدام لأسلحة الدمار الشامل تمثل خطرًا محدقًا لم يكن له أساس. بل إن المجموعة التى شكّلتها الولايات المتحدة لإجراء مسح فى العراق، وأنفقت عليها فى ما بعد مليارات الدولارات للتحقق من أن المفتشين الدوليين كانوا على حق، أكدت أن العراق لم يُعد العمل ببرامجه لأسلحة الدمار الشامل. كما أن التهديد المزعوم الذى تمثله هذه الأسلحة لم يكن هو الدافع الحقيقى للعدوان الذى قامت به الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وكانت مذكرة «داوننج ستريت» الشهيرة المؤرخة فى يوليو 2002، التى تم تسريبها فى ما بعد، مصدرًا من المصادر التى أفادت أن قرار المضى فى الحرب كان قد اتُخذ حتى من قبل أن تبدأ عمليات التفتيش بكثير.
وليس بمقدورى، حتى يومنا هذا أن أقرأ مثل هذا الكلام دون أن ينصرف ذهنى للتفكير فى الآلاف من الجنود الذين لقوا حتفهم، ومئات الآلاف من العراقيين المدنيين الذين قُتلوا، وملايين المصابين أو النازحين، والأسر التى تفككت والأرواح التى أزهقت، كما أدهش لأنه لم يحدث المزيد من نقد الذات والمزيد من محاسبة النفس من جانب اللاعبين الرئيسيين. والعار الذى جلبته هذه الحرب التى لم يكن لها أى داعٍ يفرض علينا جميعا البحث فى ما جرى من خطأ فى شأن العراق، وكيف يمكن الانتفاع من دروس هذه المأساة فى الأزمات التى قد تقع مستقبلا.
إن التوترات التى يشهدها العالم اليوم حول التطورات النووية، ولا سيما فى ما يتعلق بإيران، تدل على أننا يمكن رغم كل شىء أن نكرر كارثة العراق بما ينطوى عليه ذلك من تداعيات أشد خطورة على أمن العالم، فعندما أنظر إلى التحديات التى لا تزال تواجهنا، فإننى كثيرًا ما أعود إلى مشهد عشائنا فى بغداد فى فبراير 2003، لأنه يجسد الجوانب الأساسية للمأزق الذى نواجهه كمجتمع دولى يبحث عن الأمن الجماعى والدائم: انعدام الثقة بين الثقافات المختلفة، والآثار الضارة لنظام طال أمده يضم مَن يملكون السلاح النووى ومَن لا يملكون، وجنون سياسة شفا الهاوية النووية، وحتمية الفناء إذا لم نستطع أن نتعلم من أخطائنا الماضية. ولمشهد هذا العشاء أهمية كذلك بسبب غياب اللاعبين الأساسيين عنه، أى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللذين كانت قراراتهما ستحدد النتائج. وقد أصبح غيابهم متكررًا فى السنوات التالية وبوجه خاص بالنسبة إلى إيران، فالولايات المتحدة تلقى بظلالها على المفاوضات عن بُعد، وتبلور نتيجتها، بينما هى ترفض المشاركة المباشرة، برغم أن الدبلوماسية النووية عملية تتطلب الانخراط المباشر فيها، وتتطلب ضبط النفس والتزامًا طويل المدى. إنها لا يمكن أن تتم عن بُعد بواسطة الـ«ريموت كنترول». وإذا كان للحوار أن يقوم بدوره كأداة لتسوية التوترات التى يثيرها الانتشار النووى فإنه لا يمكن أن يقتصر على محادثة بين المفتشين والدولة المتهمة، بل يجب أن تنخرط الولايات المتحدة وحلفاؤها فى المناقشة بصورة صادقة، وأن تتحدث إلى مَن تتصور أنهم خصومها، وأن تبرهن بأكثر من مجرد الكلام على التزامها بحل سلمى للتوترات الكامنة. فجميع الأطراف يجب أن تأتى إلى مائدة المفاوضات.
لم يكن عشاء بغداد الذى أطلق عليه بعض زملائى ساخرين «العشاء الأخير» إلا واحدًا من الأزمات المتعددة التى أخذت فى الظهور فى أوائل عام 2003. كانت كوريا الشمالية قد طردت لتوها مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذين يراقبون «تجميد» منشآتها النووية، وأعلنت عزمها على الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما أننا كنا قد بدأنا اختبار المدى الذى وصل إليه البرنامج النووى الإيرانى، وكنت على وشك القيام، مع عدد من زملائى، بزيارتى الأولى لمنشأة للتخصيب النووى التى يجرى بناؤها بالقرب من «ناتانز» فى إيران. وكانت ليبيا تتهيأ لمفاتحة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فى شأن تفكيك برنامجها لأسلحة الدمار الشامل. وكان أول الملامح العامة لشبكة مبهمة للإمدادات النووية قد أخذ فى الظهور، وهو الذى وجَدْنا من بعد آثارا لنشاطها فى أكثر من ثلاثين دولة.
ولدينا الآن معلومات أكثر، بل أكثر كثيرًا، عن كل هذه الحالات للانتشار الفعلى أو المحتمل للأسلحة النووية. ولا تزال الظروف فى إيران وكوريا الشمالية بوجه خاص غامضة وغير قابلة للتوقع. إننا ما زلنا نفتقر إلى منهج عملى تفاعلى للتعامل مع هذه الحالات أو ما يطرأ من مثلها فى المستقبل. إن ما نحتاج إليه هو الالتزام بالدبلوماسية النووية.
تمثل العصر النووى الأول فى سباق نحو امتلاك القنبلة الذرية. كان ذلك سباقًا بين عدد قليل نسبيًّا من البلدان التى إما أنها كانت تمتلك التقدم التكنولوجى اللازم لذلك، وإما أنها كانت قادرة على أن تحصل سرًّا على العلوم التى تسمح لها بصنع سلاح نووى. وكانت ذروة هذا السباق، أى تدمير هيروشيما ونجازاكى، هى التى جعلت من الولايات المتحدة الفائزة فى هذا السباق. لكن المتسابقين الآخرين لم يتخلوا عن مساعيهم، فخلال بضع سنوات تمكنت أربع دول أخرى من الحصول على القنبلة الذرية.
إن ما نسميه الحرب الباردة كان بمثابة العصر النووى الثانى. فبينما امتلكت عدة دول أسلحة نووية، وواصلت غيرها السعى للحصول على التكنولوجيا النووية، فإن هذا العصر تميز بوجود عملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، اللذين كانا يجمعان عشرات الألوف من الرؤوس النووية، فى ظل فلسفة عُرفت بـ«MAD»، أى التدمير المتبادل المؤكد، كما عُرفت باسم مُقنّع هو «الردع النووى».
وبزغ فجر العصر النووى الثالث، العصر الحالى، عقب تفتت الاتحاد السوفييتى. وقد أخفقت الجماعة السياسية، فى ظل فراغ القوى الذى أعقب ذلك، فى الاستفادة من الفرص المتاحة من أجل نزع السلاح النووى. ونتيجة لذلك تزايد عدد الدول التى بدأت تبحث عن برنامج سرى.. إن لم يكن للحصول على السلاح النووى، فعلى الأقل على دورة كاملة للوقود النووى التى تجعلها قادرة على إنتاج سلاح نووى بسرعة إذا تطلب وضعها الأمنى ذلك.
والخطر الأول فى الوقت الراهن ليس سيناريو «MAD» (التدمير المتبادل المؤكد)، أى الإفراغ المتبادل للترسانات النووية الذى يمكن أن يؤدى إلى تدمير المراكز الكبرى للرأسمالية والشيوعية معًا، بل التهديد الناجم عن أعمال حربية ذرية غير متماثلة، أى حصول جماعات متطرفة أو دولة مارقة يرأسها ديكتاتور عدوانى النزعة على أسلحة نووية واستخدامها، أو استخدام سلاح نووى من جانب دولة كبرى ضد دولة غير نووية.
هذا وضع غير مستقر بطبيعته، كما أن التطورات التى شهدتها الأعوام الأخيرة ضاعفت من حالة عدم الاستقرار تلك. فقد شهدنا عدوانا، حيث لم يكن هناك تهديد محدق (فى العراق)، وتكاسلا وترددًا، حيث ظهر خطر حقيقى (فى كوريا الشمالية)، وجمودًا طال أمده مقرونا بالشتائم والمواقف العلنية بدلا من الحوار الحقيقى (فى حالة إيران). وفى هذا السياق اكتشفنا شبكة نووية غير مشروعة ومزدهرة على استعداد لتزويد الغير ببرامج نووية خفية. وفى الوقت نفسه استمرت بعض الدول فى الاعتماد على الأسلحة النووية مما يشكل حافزا مستمرًّا لغيرها على اكتسابها.
وتعنى حالة عدم الاستقرار هذه أننا فى نهايات العصر النووى الثالث، وأننا بطريقة أو بأخرى أمام مطلع تغيير كبير. فإذا لم نفعل شيئًا، إبقاء على الوضع الراهن لمن يملكون ومَن لا يملكون الإمكانيات النووية، فإنه من المرجح أن يتخذ التغيير شكل تدافع حقيقى نحو الانتشار، وربما -وهو الأسوأ بكثير- يتخذ شكل سلسلة من الاستخدامات المتبادلة للأسلحة النووية. والمؤشرات قد ظهرت فعلا فى شكل ردود فعل الدول المجاورة كلما ظهر أن هناك تهديدًا نوويًّا سواء كان حقيقيًّا أم محتملا. إن تزايد عدد دول الشرق الأوسط التى أصبحت تتحدث عن التكنولوجيا والخبرة النووية أو بدأت فى الحصول عليها إنما هو مجرد مثال على ذلك. كما أن ما يقوله عدد من كبار المسؤولين اليابانيين حول بدء المناقشات بشأن برنامج للتسلح النووى ردًّا على التجربة الأولى لكوريا الشمالية لسلاحها النووى، إنما هو مثال آخر.
ومع ذلك فهناك بديل آخر، وهو أن نغير المسار وأن نتبع نهجًا مغايرًا: حل مسألة عدم التماثل من خلال تقدم حقيقى نحو نزع السلاح النووى فى العالم، فالمسارات التى يمكن أن تؤدى بنا إلى مستقبل أكثر أمنًا تتمثل فى إبرام معاهدة جديدة بين عمالقة السلاح النووى لتخفيضه، يتبعها إنشاء منتدى تبدأ فيه الدول التى تملك الأسلحة النووية فى الاضطلاع بمسؤولياتها بشأن ضرورة نزع سلاحها النووى. وإذا كنا نستطيع أن نتعلم من دروس الماضى القريب، وأن نواجه الخطر الحقيقى الذى ينتظرنا، فقد نتمكن من تفادى الفناء المتبادل، وأن نضمن أن يتسم فجر العصر النووى الرابع بحلٍّ للتوترات النووية، وبالتخلص من السلاح النووى، وبسلام دائم.