كانت الوكالة مصممة على الاحتفاظ باستقلالها، الأمر الذى وضعها أحيانا فى مجابهة مع بعض الدول. كان ذلك واضحا على سبيل المثال أثناء التفاوض على قرار مجلس الأمن رقم 687 عندما حاولت الولايات المتحدة إسناد قيادة عمليات التفتيش إلى اللجنة الخاصة مفضلة إياها على الوكالة. وكانت الدوافع لذلك واضحة بالنسبة لى، فاللجنة الخاصة كانت هيئة جديدة منشأة بصفة مؤقتة كجهاز فرعى تابع لمجلس الأمن، ومن هذا المنطلق كان من الأسهل أن يستطيع أعضاء مجلس الأمن الرئيسيون ممارسة قدر كبير من التأثير على عملياتها. وقد استُدعى مفتشو اللجنة الخاصة على عجل من الهيئات والمختبرات الحكومية الوطنية التى تتوافر فيها المهارات اللازمة (المعرفة بالمواد السامة البيولوجية والكيماوية وبتكنولوجيا الصواريخ بعيدة المدى)، ومن ثَمَّ كان الاعتقاد أنه يكون من الأيسر اختراق اللجنة الخاصة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تلك المنظمة المستقرة ذات الخبرة النووية المستقلة.
وبصفتى المستشار القانونى للوكالة فى ذلك الوقت كنت فى نيويورك أثناء التفاوض على هذا القرار. عقدت عدة اجتماعات مع «روبرت جالوتشى»، وهو دبلوماسى وأكاديمى أمريكى ثاقب النظر يتسم بالمرونة، وأصبح فى ما بعد نائبا للمدير التنفيذى للجنة الخاصة للأمم المتحدة. وقد بذلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية جهودا حثيثة للاحتفاظ باستقلالها فى التعامل مع الملف النووى. وفى معظم الأحيان نجحنا فى ذلك. على أن «جالوتشى» أقر فى ما بعد بأنه كان هناك قدر من الاختلاف الداخلى فى بعض الدوائر الأمريكية التى أعربت عن قلق شديد حول ما إذا كانت الوكالة على مستوى هذه المهمة. وعلى العكس، كان غيرهم قلقين من أن إعطاء اللجنة الخاصة السلطة الأولى من شأنه أن يضر بمصداقية الوكالة. وكانت الصياغة التوافقية للقرار تبدو مخففة للغاية: تقوم الوكالة بمهمتها «بمساعدة اللجنة الخاصة وبالتعاون معها». وفى رأى «جالوتشى» فإن هذه الصيغة كانت تضمن أن تكون اللجنة الخاصة على معرفة بما تقوم به الوكالة.
كان من المهم بطبيعة الحال أن تتعاون الجهتان، ولا سيما من الناحية اللوجيستية، ونظرا لأن كثيرا من المنشآت التى كان يتعين علينا التفتيش عليها كانت قد قُصفت فقد كانت هناك مخاطر تهدد السلامة بسبب المواد المتبقية القابلة للانفجار، وكانت اللجنة الخاصة قد استعانت بخبراء فى المواد القابلة للانفجار لمرافقة فرق كل من الجهتين. على أن هناك الكثير الذى كان على اللجنة أن تتعلمه من حيث التنظيم والانضباط الذى تميزت به فرق الوكالة التى كانت تعمل معا لسنوات طويلة، وكان أعضاؤها فى بعض الأحيان يعرفون نظراءهم العراقيين وأساليب عملهم.
ومما لا شك فيه أن الشخصيات المشاركة أثرت على العلاقة بين الهيئتين. فـ«هانز بليكس» الذى كان يومئذ مديرا عامّا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان من قبل وزيرا لخارجية السويد. وكان «رالف إيكيوس»، الذى عُين مديرا للجنة الخاصة (أنسكوم) كان كذلك دبلوماسيًّا سويديًّا. ووفقا لما هو متعارف عليه فى وظائف الخارجية كان «بليكس» أعلى مرتبة من «إيكيوس»، ومن الواضح أنه لم يكن راضيا عن تلقى تعليمات من «إيكيوس» فى المجالات التى كلفت اللجنة الخاصة فيها بالقيادة. كما أن وجود مقر اللجنة فى نيويورك، حيث كانت تستحوذ على الجانب الأكبر من الاهتمام الإعلامى، لم يسهل الأمور، ولا سيما أن صورة الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى ذلك الوقت كانت غائمة. لكن العلاقات أصبحت أيسر إلى حد ما بفضل «ماوريسيو زيفيريرو»، وهو عالم إيطالى حسن المعشر عمل رئيسا لفريق الوكالة فى العراق، وكان يسارع إلى تسوية الخلافات التى تنشأ بين المنظمتين.
وبحلول موعد عملية التفتيش الثانية فى العراق، من 22 يونيه إلى 4 يوليه 1991، كان المسرح مهيأ لمأساة، فقد قدمت إحدى جهات المخابرات صورا استطلاعية للوكالة تدل على تصاعد أنشطة العراق بمجرد مغادرة فريق التفتيش الأول فى منطقة تقع خارج موقع «التويثة». فقد استخرج عدد من الأسطوانات المعدنية الكبيرة من باطن الأرض من المكان الذى يبدو أنها كانت قد دفنت فيه ونقلت إلى مكان آخر.
كذلك وردت معلومات عن برنامج مزعوم للتخصيب، كان العراقيون يقومون به سرّا من خلال تقنية يطلق عيها فصل النظائر بطريقة كهرومغناطيسية (EMIS)، وتستخدم هذه التقنية آلة تسمى «كالوترون»، وهى نوع من أجهزة قياس الطيف الضخمة توضع بين أجهزة كهرومغناطيسية كبيرة اخترعتها جامعة كاليفورنيا. هذه الطريقة ليست ذات كفاءة عالية وتستهلك كميات هائلة من الكهرباء. وقام متخصصون فى برنامج «كالوترون» التابع لمشروع مانهاتن بتقييم الصور التى تلقاها مفتشو الوكالة والتقارير الواردة من موقع «طارمية» ورأوا أنها تفيد بوجود عمليات التخصيب من خلال فصل النظائر بطريقة كهرومغناطيسية (EMIS).
استمر العراقيون على إنكارهم وجود برنامج لتخصيب اليورانيوم لم يتم الإعلان عنه، لذا كان من الضرورى تعقب المعدات كدليل على ذلك. ومن هنا فإن عملية التفتيش الثانية تحولت إلى ملاحقة، وقد قيل إن الموقع الجديد للأسطوانات المستخرجة من باطن الأرض، والتى كان يشتبه فى أن تكون ممغنطة لاستخدامها فى عملية «EMIS»، هو معسكر حربى. وعندما وصل فريق الوكالة إلى هذا المكان مُنع من الدخول. وقدمت الاحتجاجات إلى المستويات الأعلى فى الحكومة العراقية فسمح له بالدخول بعد ثلاثة أيام. ولكن المعدات عندئذ كانت قد اختفت.
وبعد ذلك بثلاثة أيام أخرى تلقى الفريق معلومات عن الموقع الجديد: معسكر حربى آخر. وفى هذه المرة حضر فريق من مفتشى الوكالة دون سابق إنذار. ورُفض دخولهم مرة أخرى. لكن اثنين من أعضاء الفريق تسلقا السلم الخارجى لخزان مياه مجاور وشاهدا من أعلى قافلة من الحافلات تتجه نحو الباب الخلفى للمعسكر. وقام عضوان آخران فى الفريق فى سيارة للأمم المتحدة بمطاردة الحافلات مشيرين بأيديهم كيفما اتفق أثناء مرورهم بالأسواق المحلية إلى أن تمكنوا من الوصول إلى الطريق السريع الصحيح. وقد حقق إصرارهم نتيجته، فعندما وجدوا القافلة وجدوا أنها تضم ما يقرب من مئة حافلة محمّلة بما يبدو أنه معدات نووية، حتى إن الكثير منها لم يكن قد تم تغطيته بسبب تعجل الهروب. وكان الإمساك بالعراقيين متلبسين على هذا النحو اختراقا كبيرا.
فى أوائل يوليه قمنا؛ «بليكس» وأنا، برحلة إلى بغداد. كنا أعضاء فى وفد رفيع المستوى شكَّله الأمين العام للأمم المتحدة «خافيير بيريز دى كويار»، وكان «إيكيوس» هو رئيس الوفد؛ مما لم يُرض «بليكس» إطلاقا. وكان هدفنا هو الضغط على الحكومة العراقية لتتوقف عن عرقلة عملية التفتيش، وأن تفصح بشكل صريح عن كامل برنامجها النووى.
فى البداية استمر العراقيون فى الإنكار وألحَّ رئيس لجنة الطاقة الذرية العراقية الدكتور همام عبد الخالق غفور على «بليكس» وعلىَّ بضرورة القبول بما يقوله العراقيون. وقد أقسم لنا، ونحن معه فى السيارة، إن العراق لم يقم بأية أنشطة تخصيب غير معلنة على الرغم من الدلائل المتزايدة على عكس ذلك. وأكد أن برنامج العراق النووى كان سلميّا تماما.
لكن الضغط الدولى كان يتزايد، وحدد مجلس الأمن موعدا نهائيّا، موضحا أنه على استعداد لاتخاذ مزيد من التدابير. ومع ذلك كان فريق تفتيش جديد قد وصل وكان مستعدّا لتتبع مؤشرات جديدة.
وفى 7 يوليه امتثلت السلطات العراقية وقدمت للوكالة قائمة مطولة جديدة بالمعدات ومواقعها. ولم يشمل هذا الإقرار الجديد عمليات تخصيب «EMIS» فقط، ولكنه تضمن كذلك أعمال التخصيب بالطرد المركزى والكيماوى وإعادة المعالجة التى قاموا بها لفصل بضعة جرامات من البلوتونيوم. وتضمن الإقرار كذلك قائمة بمنشآت التصنيع والمساندة. كما كشف عن وجود حوالى أربعمئة طن من اليورانيوم غير المخصب الذى تم استيراد جانب منه من البرازيل والنيجر والبرتغال لكن لم يسبق الإعلان عنه للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وما زلت أذكر أحد مشاهد هذه الزيارة بشكل واضح. كنا، «بليكس» وأنا، قد صحبنا أعضاء فريق التفتيش الذى يضم أفرادا من «الأنسكوم» ومن الوكالة، إلى موقع فى قلب الصحراء. وذكر العراقيون أنهم سيطلعوننا على معدات لفصل النظائر كانوا قد دمروها ودفنوها حتى لا تُكتشف. وكنا فى فصل الصيف حيث بلغت درجة الحرارة أقصاها. وكان من الواضح أن مفتشينا القائمين بقياس هذه الكتل المعنية الضخمة وتوصيفها تنتظرهم مهمة شاقة.
وفجأة قرر «ديفيد كاى» وهو مدير سابق من المستوى المتوسط فى برنامج التعاون الفنى التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، قليل الخبرة فى التفتيش على الضمانات استجواب أحد كبار العلماء العراقيين فورا. ورفع ذراعه بصورة مسرحية وصاح: «ليبدأ الاستجواب الآن». وقد أدى ذلك إلى إحراج «بليكس» وإحراجى فدعونا «كاى» جانبا لإبلاغه بأن هذه ليست الطريقة التى نُجرى بها أعمال التفتيش. وكان هدفنا فى هذه الحالة هو السعى للحصول على تعاون كامل من جانب العراقيين، ولم يكن التهديد والإهانة بالطبع هما الأسلوب لتحقيق هذه الغاية.
وكان تعيين «كاى» كمفتش للضمانات فى ذلك الوقت أمرا غريبا. فحسب معلوماتى، لم تكن لديه الخبرة العلمية أو التكنولوجية، وكانت دراسته فى مجال الشؤون الدولية. وقد عرفته شخصا لماحا يتسم باللياقة وحسن التعبير. ولكنه بمجرد تعيينه فى فريق العمل المعنى بالعراق يبدو أنه حدث تحول فى شخصيته. كنا قد سافرنا معا إلى نيويورك أثناء مناقشة تطبيق القرار (687). وبغير تشاور معى أو إبلاغى قام «كاى» بتحديد مواعيد للقاءاته مع المسؤولين الأمريكيين مما يعد مخالفة وخروجا على الأعراف المعمول بها فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وربما تدعو النظرة إلى الوراء إلى الاعتقاد بأن جهاز المخابرات الأمريكية أراد نقل معلومات من خلال «كاى» ليتصرف فريق عمل الوكالة بالعراق بناء عليها، وكان تعيينه فى هذا الفريق أساسا لأغراض تنظيمية وإدارية، ومع ذلك طلب إليه لسبب ما رئاسة عمليتين من عمليات التفتيش الحاسمة. هل كان «بليكس» أو «زيفيريرو» يعرفان بوجود أى علاقة لـ«كاى» بالمخابرات الأمريكية؟ هذا ما لا أعرفه.
ولحُسن الحظ فإن أسلوب التفتيش الذى اتبعه «كاى» الذى وصفه «جالوتشى» نفسه بأنه أسلوب «رعاة البقر» لم يكن شائعا بين مفتشى الوكالة، لكن الأمر كان مختلفا فى «الأنسكوم». ففى تلك الرحلة نفسها إلى الصحراء رأيت عالِما عراقيّا كبيرا يبكى من الإحباط إزاء المعاملة التى تعرض لها من جانب أحد مفتشى «أنسكوم» الذى اتهمه علنا بالكذب.
وفى الحافلة التى أقلّتنا فى طريق العودة نظرت حولى فوجدتها تغص بالأمريكيين. وقد جاء الكثير منهم من المختبرات الوطنية الأمريكية. كان مستواهم رفيعا من الناحية الفنية، ولكنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن كيفية إجراء عمليات تفتيش دولية أو عن كيفية التصرف فى سياقات ثقافية مغايرة. وكان من الواضح، من محادثاتهم العابرة، أنهم كانوا يعتقدون أن مجرد حضورهم إلى بلد تعرض لهزيمة عسكرية يسمح لهم بالقيام بما يحلو لهم.
تحدثت إلى بعض الجالسين إلى جوارى فى الحافلة وشرحت أساسيات النهج الذى تتبعه الوكالة الدولية للطاقة الذرية: المهنية التى تتسم بالمثابرة والاحترام، وذكرت أن المهنية هى السمة التى يتميز بها مفتشونا، وأنها توافرت لهم عبر سنوات من الخبرة، وانتقدت كذلك السلوك الهجومى «للأنسكوم».
وكانت النتيجة مذهلة. حيث قام بعضهم بنقل صورة مختلفة تماما عن هذا الحوار، وفى النهاية ظهرت هذه الرواية المشوهة لما قلت والتى زُعم أنها واقعية، فى مقال نشره «جارى ميلهولين»؛ مدير مشروع «ويسكونسن» للحد من التسلح النووى، فى مجلة النيويوركر قال فيه إن: «البرادعى، ذلك القادم توّا لمشهد التفتيش فى العراق، عبر عن تقاليد الوكالة الدولية حيث قال أمام حشد من المفتشين، كما يذكر «كاى»: «إن العراقيين ليس لديهم برنامج لليورانيوم المخصب، وأنا أعلم ذلك لأنهم أصدقاء لى، ولأنهم أخبرونى أن ليس لديهم مثل هذا البرنامج، وبالطبع فإن البرادعى مخطئ ولكنه كان يعبر عن التوجه الذى حدده رؤساؤه فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية».
وبالطبع لم يكن قد بدر عنى أىٌّ من هذه الأقوال، بل إن العراقيين كانوا قد بدؤوا بالفعل فى الاعتراف بقيامهم بعملية فصل النظائر الكهرومغناطيسية، بل إننا كنا فى هذه الرحلة بصدد العودة من تفقد ما وصفه العراقيون بأنه أجزاء مفككة من أجهزة فصل النظائر. لقد كانت الدلائل على عمليات التخصيب التى قام بها العراق والوسائل والمنشآت المستخدمة لهذا الغرض قد بدأت فى الظهور من أكثر من زاوية. وبالتالى كنت سأكون قليل الذكاء إذا قلت بأن هذه البرامج لا وجود لها. ولكن كل هذه البدهيات لم تكن لتؤثر على ما نُشر فى النيويوركر، أو على ما أعقب ذلك من قصص صحفية تزعم أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تتمتع بالكفاءة.
واستمر بعض مفتشى «الأنسكوم» فى استخدام سلطتهم بصورة مفرطة تفتقر للحساسية الثقافية والدينية اللازمة. اقتحم بعضهم المساجد والكنائس للبحث عن أسلحة الدمار الشامل دون أن تكون هناك أى دلائل تفيد بوجودها فيها. وكان منهم من يقوم بعمليات التفتيش خلال الأعياد والإجازات الدينية دون داعٍ مُلحٍّ لذلك. وفى مرحلة تالية أصروا على تفتيش قصور صدام حسين ليس لأن لديهم معلومات جدية على وجود ما يستوجب أو يستدعى التفتيش فى هذه القصور ولكن لمجرد إظهار قدرتهم على تفتيش القصور الرئاسية ولم أتمالك نفسى أحيانا من التساؤل حول ما سيكون عليه شعورهم لو أنهم كانوا هم فى مكان العراقيين فى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من أن غالبية العراقيين كانوا يبغضون صدام حسين بسبب أسلوبه الوحشى فى القيادة، غير أنهم، وكثيرين من العرب، شعروا بأن ما يقوم به مفتشو «الأنسكوم» فيه إهانة واستخفاف بالكرامة العراقية، وبدلا من تشجيع العراقيين على المزيد من التعاون لم يؤدِّ أسلوب «رعاة البقر» الاستفزازى هذا إلا إلى تراكم أسباب الحنق والبغضاء إزاء هذه الفرق، خاصة أن هذه العمليات التحكمية لم تُفضِ إلى أية نتائج.
وبينما كان صيف 1991 يقترب من نهايته لم يكن لدينا بعد أى دلائل ترجح وجود نوايا حقيقية لدى العراق لتطوير الأسلحة النووية. كان واضحا أن العراق قد قام بإخفاء نشاطات تتعلق بتخصيب اليورانيوم وبفصل البلوتونيوم، ولكن العراقيين كانوا يصرون على أن هذه النشاطات كانت تتم لأغراض سلمية.
وجاءت نقطة التحول فى نهاية شهر سبتمبر مع الزيارة السادسة لفرق تفتيش الوكالة الدولية، حيث وصلت الوكالة معلومات أشارت إلى مبنيين فى وسط بغداد، وهما عبارة عن مكاتب لوزارتَى الصناعة والتصنيع الحربى. وقد أدى خطأ فى الإجراءات الأمنية ارتكبه العراقيون إلى ترك كم كبير من الوثائق الهامة فى هذين المبنيين وعندما توجه المفتشون إليهما دون سابق إنذار تمكنوا بالفعل من رؤية هذه الوثائق والتحفظ على بعض منها. غير أن العراقيين رفضوا السماح للمفتشين بالمغادرة وبحوزتهم تلك الوثائق. وبدورهم رفض المفتشون، تحت رئاسة «كاى» من الوكالة و«جالوتشى» من «الأنسكوم»، ترك الوثائق، وقرروا البقاء فى الفناء المخصص لانتظار السيارات. واستمر هذا الاعتصام لمدة ثلاثة أيام بلياليها، ونقلته قنوات التليفزيون، فى ما اشتهر من بعد بأنه «مواجهة ساحة انتظار السيارات» بين المفتشين والعراقيين.
وفى النهاية استسلم العراقيون، وكان من بين الوثائق التى تم التحفظ عليها تقارير تحدد مدى التطور فى تصنيع أسلحة نووية. وبينما أوضحت هذه الوثائق أن الوصول إلى مرحلة تصنيع السلاح النووى كان سيستغرق من العراق عاما إضافيّا أو عامين، إلا أنها أظهرت بوضوح نية الجانب العراقى، وأن هذا الجانب من البرنامج كان كبيرا وكان يتم تنفيذه وتوفير التمويل اللازم له بدون أدنى تردد أو تقتير.
وفى نهاية العام نفسه تلقى «كاى» جائزة من الوكالة، وهو ما حدا بمبعوث العراق لدى الوكالة، الدكتور رحيم الكتل، للاعتراض رسميّا أمام «بليكس». وقد تضمنت شكوى المندوب العراقى الادعاء بقيام مفتشين بتصرفات كان من بينها إلقاء الوثائق الرسمية على الأرض والسير عليها، وأيضا التهديد بجلب طائرات حربية أمريكية للتدخل أثناء عمليات التفتيش، بل إن مذكرات الاحتجاج العراقية تضمنت إشارات لقيام أعضاء من فرق التفتيش بتحطيم أسوار وقطع أسلاك التليفونات بل «والظهور عرايا فى فناء بعض البنايات المحاطة بعمارات سكنية».
وعلى الرغم من أنه لم يتم أبدا التحقق من صدق الدعاوى الواردة فى مذكرة الاحتجاج هذه، فقد كان من الواضح أن «كاى» وغيره كان لديهم تصور بأن اتباع النهج العدوانى من شأنه إجبار العراقيين على التعاون فى تقديم المعلومات والأدلة. وعلى الرغم من أنه من الممكن القول بأن بعض ما تم من ضغط فى إطار ما وصف بـ«المواجهة فى ساحة انتظار السيارات» كان ربما مطلوبا بدرجة ما، وأنه كان فى المحصلة النهائية مجديا، إلا أننى وبصفة عامة أجد أن مثل هذا النمط من السلوك يضر أكثر مما يفيد. إن اللجوء إلى نهج عدوانى يدمر فرص التعاون على المدى الطويل. وبغض النظر عن الدوافع وراء السلوك الذى انتهجه أفراد فريق التفتيش فإن الأكيد أن ما قام به المفتشون فى حينه لن يمحى بسهولة من ذاكرة العراقيين، بل ومن ذاكرة العالم الإسلامى عموما. ولكن العراقيين الذين كانوا قد خرجوا لتوِّهم خاسرين من الحرب لم يكن بوسعهم سوى الرضوخ أمام هذا النوع من السلوك.
لكن أسوأ ما قام به «كاى» و«جالوتشى» كان قرارهما بإرسال الأوراق الحساسة للخارجية الأمريكية قبل أن تتاح الفرصة للوكالة الدولية أو «الأنسكوم» أن يتلقيا نُسخا من هذه الأوراق. وأصر «جالوتشى» على أن السبب وراء هذا التصرف هو أن وسيلة الاتصال مع الإدارة الأمريكية «كانت مؤَمَّنة أكثر». ولكن نتيجة هذا العمل أضرت بصورة الوكالة و«الأنسكوم»، ليس فقط فى نظر العراقيين ولكن أيضا أمام المجتمع الدولى بكامله. فعلى الرغم من أن الإجماع الدولى كان داعما لعمليات التفتيش فى العراق، غير أن الدول كانت تتابع بكثير من الاهتمام الطريقة التى يتم بها التفتيش؛ حيث كانت هناك حساسية كبرى من أن يبدو فى سلوك المفتشين الدوليين ما يوحى بتواطئهم مع جهاز المخابرات الأمريكية أو غيره من أجهزة المخابرات. ولم تتمكن «الأنسكوم» أبدا من التخلص من هذه الصورة، وهو ما أدى فى النهاية إلى حلها.
ولقد تمت عمليات التفتيش فى العراق على ثلاثة مسارات متوازية، الأول كان يهدف لتوضيح المعلومات المتاحة حول برنامج التسلح النووى العراقى بما فى ذلك التوصل إلى الأماكن المتوقعة للاختبارات شديدة الانفجار. المسار الثانى كان التمهيد لإخلاء العراق من اليورانيوم عالى التخصيب. أما المسار الثالث فقد تركَّز على تفكيك معدات التخصيب، حيث تم تدمير أجهزة الطرد وتحطيم أجهزة فصل النظائر مغناطيسيّا باستخدام آلات من البلازما مخصصة لذلك، كما تم كذلك إتلاف الأدوات الخاصة بالتعامل مع المواد النووية مثل الخلايا الساخنة وصناديق القفازات الخاصة، حيث كان يتم قطع أسلاك التحكم وملء الحاويات بالأسمنت.